(الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)البقرة 156 .
تفسير القرطبي:
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ:
" مُصِيبَة " الْمُصِيبَة : كُلّ مَا يُؤْذِي الْمُؤْمِن وَيُصِيبهُ ,
رَوَى عِكْرِمَة أَنَّ مِصْبَاح رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْطَفَأَ ذَات لَيْلَة فَقَالَ : " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " فَقِيلَ : أَمُصِيبَة هِيَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : (نَعَمْ كُلّ مَا آذَى الْمُؤْمِن فَهُوَ مُصِيبَة ) .
قُلْت : هَذَا ثَابِت مَعْنَاهُ فِي الصَّحِيح , خَرَّجَ مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَا يُصِيب الْمُؤْمِن مِنْ وَصَب وَلَا نَصَب وَلَا سَقَم وَلَا حَزَن حَتَّى الْهَمّ يُهَمُّهُ إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاته ) .
خَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا وَكِيع بْن الْجَرَّاح عَنْ هِشَام بْن زِيَاد عَنْ أُمّه عَنْ فَاطِمَة بِنْت الْحُسَيْن عَنْ أَبِيهَا قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَذَكَرَ مُصِيبَته فَأَحْدَثَ اِسْتِرْجَاعًا وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدهَا كَتَبَ اللَّه لَهُ مِنْ الْأَجْر مِثْله يَوْم أُصِيبَ ) .
مِنْ أَعْظَم الْمَصَائِب الْمُصِيبَة فِي الدِّين
ذَكَرَ أَبُو عُمَر عَنْ الْفِرْيَابِيّ قَالَ حَدَّثَنَا فِطْر بْن خَلِيفَة حَدَّثَنَا عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَصَابَ أَحَدكُمْ مُصِيبَة فَلْيَذْكُرْ مُصَابه بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَم الْمَصَائِب ) . أَخْرَجَهُ السَّمَرْقَنْدِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده
قَالَ أَبُو عُمَر : وَصَدَقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ الْمُصِيبَة بِهِ أَعْظَم مِنْ كُلّ مُصِيبَة يُصَاب بِهَا الْمُسْلِم بَعْده إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , اِنْقَطَعَ الْوَحْي وَمَاتَتْ النُّبُوَّة . وَكَانَ أَوَّل ظُهُور الشَّرّ بِارْتِدَادِ الْعَرَب وَغَيْر ذَلِكَ , وَكَانَ أَوَّل اِنْقِطَاع الْخَيْر وَأَوَّل نُقْصَانه
قَالَ أَبُو سَعِيد : مَا نَفَضْنَا أَيْدِينَا مِنْ التُّرَاب مِنْ قَبْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبنَا . وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْعَتَاهِيَة فِي نَظْمه مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث حَيْثُ يَقُول : اِصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَة وَتَجَلَّد وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْء غَيْر مُخَلَّدِ أَوَمَا تَرَى أَنَّ الْمَصَائِب جَمَّة وَتَرَى الْمَنِيَّة لِلْعِبَادِ بِمَرْصَدِ مَنْ لَمْ يُصَبْ مِمَّنْ تَرَى بِمُصِيبَةٍ ؟ هَذَا سَبِيل لَسْت فِيهِ بِأَوْحَد فَإِذَا ذَكَرْت مُحَمَّدًا وَمُصَابه فَاذْكُرْ مُصَابك بِالنَّبِيِّ مُحَمَّد
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
جَعَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْكَلِمَات مَلْجَأ لِذَوِي الْمَصَائِب , وَعِصْمَة لِلْمُمْتَحَنِينَ : لِمَا جَمَعَتْ مِنْ الْمَعَانِي الْمُبَارَكَة , فَإِنَّ قَوْله : " إِنَّا لِلَّهِ " تَوْحِيد وَإِقْرَار بِالْعُبُودِيَّةِ
وَالْمُلْك . وَقَوْله : " وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " إِقْرَار بِالْهَلْك , عَلَى أَنْفُسنَا وَالْبَعْث مِنْ قُبُورنَا , وَالْيَقِين أَنَّ رُجُوع الْأَمْر كُلّه إِلَيْهِ كَمَا هُوَ لَهُ . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى : لَمْ تُعْطَ هَذِهِ الْكَلِمَات نَبِيًّا قَبْل نَبِيّنَا , وَلَوْ عَرَفَهَا يَعْقُوب لَمَا قَالَ : يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف .
هكذا نجد أحبائي أن كل ما أذى المؤمن فهو مصيبة ومن صبر منا جزاه الله خيرا وجعل هذا في ميزان حسناته وأبدله الخير كله
وكل المصائب تهون أحبائي الا مصيبة الدين (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا) ولكي نهون على أنفسنا ما يُصيبنا علينا أن نحمد الله أولا انها لم تكن في ديننا ثم بعد ذلك نتذكر مصيبة موت نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم وبعدها نجد أن ما أصابنا لا يُعادل ذرة واحده أمام فدح هذه المصيبة
وعلينا أيضا أن نتذكر أن المصيبة قد تكون أكبر مما أصابنا ولكن رحمة الله واسعه وتسع كل ما حولنا فخفف الله عنا وجعلها هكذا
وأذكركم أحبائي أن مع كل محنه منحه وهذا من رحمة الله علينا وأذكركم أيضا أن الله احن علينا من الام على رضيعها كما أقر نبينا صلى الله عليه وسلم
ومن ابتلاه ربه فليشكره ويحمده فهو يحبه وما ابتلاه الا ليخفف عنه وما أبكاه الا ليضحكه وماأخذ منه الا ليعطيه وما أحرمه الا ليتفضل عليه
هكذا يكون الرب الحنون الذي يحن ويمن على عباده ومن منا له اله غير الله !أما الله فعباده سوانا كثير ومنهم من أفضل منا كثير ورغم هذا لا يتخلى عنا الله ويتلاقنا متى رجعنا وتبنا اليها
قال يزيد بن ميسرة رحمه الله : (( البكاء من سبعة أشياء : البكاء من الفرح ، والبكاء من الحزن ، والفزع ، والرياء ، والوجع ، والشكر ، وبكاء من خشية الله تعالى ، فذلك الذي تُطفِئ الدمعة منها أمثال البحور من النار ! )) فمن بكى من حزن أصابه أو وجع ألمه فهنيئا له فالجنه مثواه
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط خطيئة } رواه مسلم والترمدى
يا من أحببتهم في الله أنصتوا الى ولنتمعن سويا في هذه العبارة(نحن قوم إذا أعطنا الله شكرنا وإذا لم يعطنا صبرنا) ما رأيكم في هذه العبارة أحبابي!
انالت اعجابكم ووجدت صدى داخل نفوسكم
اذا فلننظر الى هذه العبارة(نحن قوم إذا أعطانا الله أثرنا وإذا لم يعطنا شكرنا) فلنقرأها معا مرة أخرى ونعى معانيها ونشعر بجمال ما فيها
هكذا حال المؤمن يأثر على نفسه اذا اعطاه الله ويشكر عند ابتلاء الله (اللهم اجعلنا منهم يارب العالمين)
أخي المؤمن وأختي المؤمنة فليكن أول ما تنطقه ألسنتنا عند مصيبتنا (إنا لله وإنا اليه راجعون),ونسأل الله أن يجرنا في مصيبتنا ويخلف لنا خيرا منه
وَفِي الْحَدِيث (مَنْ اسْتَرْجَعَ عِنْد الْمُصِيبَة أَجَرَهُ اللَّه فِيهَا وَأَخْلَفَ اللَّه عَلَيْهِ خَيْرًا )
وعن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبا لامر المؤمن إن أمره كله له خير, وليس ذلك لأحد إلا المؤمن :إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) رواه مسلم.
ومن منا احباب الله أُذى أكثر من نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نتعلم منه صلوات الله عليه كيف كان صبره
لن أطلب من العين الا تبكي لا فهذا نبينا بكى على فراق ابراهيم ابنه ولكن العين تبكي والقلب يرضى وهذا نبينا ايضا تنزل دموعه عندما ارسلت بنتُ النبي صبلى الله عليه وسلم :إن ابنى قد احتضر فاشهدنا ,فارسل يقرىء السلام ويقولإن لله ما أخذ , وله ما اعطى , وكل شىء عنده بأجل مسمى , فلتصبر ولتحتسب ) فأرسلت إليه تُقسم عليه ليأتينها .فقام ومعه سعد بن عباده , ومعاذ بن جبل , وأُبى بن كعب , وزيد بن ثابت , ورجال رضى الله عنهم, فرُفع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبى , فأقعده في حجره ونفسه تقعقع , ففاضت عيناه , فقال سعد : يا رسول الله ما هذا؟ فقال: (هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده ) وفي رواية في قلوب من شاء من عباده وانما يرحم الله من عباده الرحماء)متفق عليه. ومعنى تقعقع: تتحرك وتضطرب.
ومما سبق نرى ان البكاء رحمة من الله وليس البكاء ضعف ايمان أو عدم رضا ولكن أذكركم مرة أخرى أن العين تبكي ولكن النفس ترضا
أطلت عليكم أحبابي ولكن فلتعذرونى فبداخلى الكثير أحب أ ن أطلعكم عليه فلننظر سويا الى هذا الحديث ونرى معا عظمة أنبياء الله
عن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكى نبيا من الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم , ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه , وهو يقول : (اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون) متفق عليه.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يُرد الله به خيرا يُصِب منه) رواه البخاري.
هنيئا لمن صبر وشكر فالجنه له المأوى
والمولى عنه قد رضىَ وله قد أرضى